معلّم وتلاميذ1

في آواخر القرن الماضي

   المعلّم يدعى "جريس خير الله" من ضيعة "بحمدون"، والتلاميذ من قرية "رأس المتن"، والضيعة والقرية متقابلتان، الأولى قِبْلِيّة والثانية شماليّة، يفصل بينهما وادٍ يُعرف باسم وادي "الشّميسة"، وقد سُمّي أيضًا وادي "لامرتين" ينبع منه نهر الدلبة، وفي أعلاه تجثم بلدة "حمّانا" المتنيّة، التي زارها الشاعر الفرنسيّ عام 1831 م. وتغنّى بها وبالوادي الجميل.

   كان المعلّم "جريس" يأتي من ضيعته "بحمدون" إلى "رأس المتن"، سيرًا على قدميه صباح كلّ إثنين، يمكث في هذه الأخيرة خمسة أيام، يعود في نهايتها، إلى مسقط رأسه. حيث يُمضي نهاية الأسبوع للاستراحة من عناء التعليم، واجتياز الوادي الوعر المسالك، في أثناء سيره على الطريق، التي تزيّنها الطبيعة الخيّرة بمختلف أنواع النبات المثمر وغير المثمر؛ كان يجمع، مستعملًا سكّينه، حزمةً من قضبان الريحان (حبّ الآس) المتوفّر هناك، منها الطويل، ومنها القصير، ومنها الوسط، وكلّها ليّنة، مكينة، غير سهلة الكسر، بهدف استخدامها في تأديب التلاميذ، فكانت أنجع أسلوب لردع العاصي والمشاغب، وحثّ الخامل والكسلان، على الانتباه وتعلّم الأبجديّة ومبادئ القراءة، ولا أعني أنّها كانت العلاج الوحيد لداء العصيان والمشاغبة والخمول والكسل، بل كانت هناك وسيلة أخرى، هي استعمال الحصى الخشن يُضغط بها على شحمة الأذن، وأحيانًا، يتمّ اللّجوء إلى الفلق في الحالة القصوى من التمرّد والعصيان والسفاهة. والفلق المخيف هذا عبارة عن عصًا مقوّسةٍ كمندف المنجّد، يُربط طرفاها بحبلٍ يُشَدُّ به ساقا مستحق الفلق، المرفوعتان في الهواء، بينما ظهره مستلقٍ على الأرض؛ المعلّم عند الرّأس، تلميذان نشيطان يُمسكان بطرفيّ الفلق، وثالثٌ يهوي بقضيب الريحان على أخمصي قدمي المعذّب، يُشبعهما ضربًا.   

   وكان التلاميذ على شوق أهليهم لتعليمهم أصول القراءة والكتابة، يهربون أحيانًا من المدرسة، خوفًا من لسع قضبان الآس أو استعمال الحصى أو الفلق، ويقضون نهارهم في حقول القرية أو مغاورها عند هطول المطر، يقتاتون بأرغفة مدهونة بالزيت والصعتر، أو بخبزٍ قفارٍ خالٍ من الأدم، وببعض الثمار البرّية وحشيش البراري، ويؤوبون إلى البيوت عندما تحين ساعة الانصراف من بيت العلم البدائيّ، الذي معلّمه ومديره وناظره "جريس خيرالله" البحمدونيّ.

   في الحقول التي كانوا ينتشرون فيها للنجاة من القصاص، والتهرّب من تعلّم الأبجديّة، كان الأشقياء منهم يعدّون بعض الحيل لمضايقة المعلّم، والإيقاع به، والنيل من كرامته، والانتقام منه، مع أنّه لم ينوِ لهم شرًا في أيّ من الأيام، بل كان همّه انتشالهم من ظلام الجهل، وقهر الأمّية السائدة بين كلّ سكّان القرية تقريبًا. مدرسة القرية مؤلّفة من بيت في وسطه عمود خشبيّ أي من غرفة واحدة، يجلس المعلّم "جريس" فيها على كرسي أو على طرّاحة، وتلاميذه يقعدون متربّعين على حصيرةٍ وجلود غنم أو ماعز.

   في أحد الأيام، وقد تغلّبت روح الطيش على التعقّل، وضع أوباش هؤلاء التلاميذ وأشرارهم، كرسي المعلّم الخشبيّة خلسةً، على جلد خروف وسبع، غطّى قافعة نقبوها في سقف البيت المعمول من التراب والأخشاب، والكائن تحته طابق سفليّ يُستعمل كمتبنٍ وزريبةٍ للدواب؛ دخل المعلّم في ذات صباح، وقضيب ريحان مشرّع بيده اليُمنى، فوقف التلاميذ مظهرين وافر الاحترام له، فأمرهم بالقعود، فقعدوا خاشعين صامتين، أمّا هو فما إن جلس على كرسيّه، حتى هبطت به إلى المتبن المظلم، فتوارى عن أنظار المتعلّمين الخبثاء، الذين هبّوا من على مقاعدهم الجلديّة والقشّية، مقهقهين جذلين من فعلتهم البشعة، مولّين الإدبار، هاربين حفاة، لا يلوون على شيء، تاركين معلّمهم، الظالم في نظرهم القصير، يتخبّط في ظلمة الإسطبل طارحًا الصوت، حتّى سمعه الجيران، فهرعوا ليقفوا على حقيقة الحكاية، وفتحوا الباب السفليّ، وأخرجوه مكسوّ الوجه، والرأس، والعمّة السوداء، والسروال، والكَبَران، بالتبن الناعم والغبار القاتم، وأزالوا ما علق بملبوسه من كدر، وطيّبوا خاطره بكلامٍ لطيفٍ مهذّب، وأكرموه، واعتذروا منه عمّا اقترفه كارهو المدرسة والتعلّم السفهاء، من إثمٍ بحقّه، ووعدوه بالسعي لمعاقبتهم، واعتذارٍ من ذويهم؛ ولم يؤب هؤلاء التلاميذ الثائرون على المحسن إليهم إلا عند المغيب، فلاقوا من الآباء والأمّهات ما يستحقّون من التأنيب والإهانة، وحتّى الضرب الموجع. وفي الصباح أتوا بأولادهم إلى المدرسة، ذات الغرفة الواحدة معتذرين، ووجناتهم مصبوغةٌ بحمرة الخجل ممّا حصل، مخوّلين المعلّم الطيّب، أن يفرض العقاب الذي يشاء، على من يشاء من أولادهم الأردياء الآثمين، قائلين: لك اللحم ولنا العظم من أولادنا؛ فاختار ثلاثة منهم، تأكّد من أنّهم دبّروا الحيلة الشرّيرة: الأوّل وكان أشرّهم، نال عقاب الفلق، وهو العقاب الأكبر، والثاني ضغط على أرنبتي أذنيه بالحصى الخشن كالمبرد، والثالث نال عشرين جلدة على قفاه، وباطن كفّيه بقضيب الريحان، وحصل هذا العقاب برضى الوالدين ومساعدتهم، وكان كافيًا لتهدئة المعلّم، وكبح جماح غيظه؛ وعاد إلى مزاولة مهنته الصعبة، جاهدًا في إزالة غشاوة الجهل والأمّية، عن عيون صبيان القرية الأغبياء العاجزين عن تقدير قيمة رجلٍ يشقى شقاء المرسلين، ويسعى لانتشالهم من كهف الظلام إلى عالم النور.                                               

                                            يوسف س. نويهض


1- قصّة المعلّم هذه، رواها لي في الأربعينيّات، الأمير "أمين أبو اللمع" الذي كان يقيم في رأس المتن، وكان أبوه كما قال لي درزيًا تنصّر، مقيمًا مع الأجداد في سرايا رأس المتن التي انطلق منها يومًا الأمير "حسين أبو اللمع"، مواكبًا الأمير حيدر الشهابيّ في الهجوم ليلًا على "عين داره"، حيث تغلّب حيدر على محمود باشا أبو هرموش في عام 1711 م. وقضى القيسيّون على اليمنيّين.